الوصف
“صوَّرنا لكُم في طيّاتِ هذا الكتابِ قصّةَ زيارةٍ خياليّةٍ إلى الأُردُنّ، تاجُ الأوطانِ، أبطالُها تماثيلٌ طينيةٌ من عينِ غَزال، أسميناهُم هنا بـ “”الغِزلان””. بدأَتْ رحِلتُهم من الشَّمال، من أُمِّ قيسٍ، بآثارِها وعسلِها المُخزَّنِ في جِرارِها، الّذي حلاوتُه من حلاوَةِ أزهارِها. إلى أُمّ الجِمالِ في المفْرَقِ، التي أصبحت في الصّحراءِ دُرَّةً، ومنها للخَضْراءِ عَجْلون، وقلعةُ الرّبضِ الأيّوبيّةِ، ومع معزوفةٍ من آلة القِرْبَةِ الموسيقيّةِ، أخذتْهم الألحانُ لمدينةِ الأعْمِدةِ جَرَش، التي في أرضِها السَّخِيةِ عِزُّ الحضاراتِ تألَّقَ و فَرَش، ثم سارَ الغِزلانُ إلى الزَّرقاءِ، واطمَأنّوا على الأَحبابِ والأَصْحابِ والأشِقّاء، ومعهم زاروا الأزرَق، فقصدوا قَصْرَها وواحَتَها المُزَّينةِ بالمها العربيّ والطُّيورِ المهاجِرة.
وبعدها توقَّفوا على ضِفافِ سيلٍ كان نَبْعُه مَهداً لحضارتِهم الفتيَّةِ، ومن هناك أخذَتْهم الطُّرقُ للسَلَطِ، التي بأسواقِها يفيضُ الخيرُ والكرمُ، وببيوتِها الصَّفراء المُزخْرفةِ أصبحتْ عَلَمًا.
وفي عَمّانَ، عاصمةُ الحبِّ والأمانِ، زارَ أبطالُ قِصَّتِنا مدينةً بتقاليدِها وأُلفتِها تُشبهُ كلَّ مُدنِ الوطن، بيوتُها تفوحُ منها روائِحُ الياسمينِ والليمونِ الحِسان، ومن بينِ أدراجِها تُرسمُ حكاياتُ حُبٍّ وأملٍ بشتّى أشكالِ الفنونِ والألحانِ، ويومُ الجُمعَةِ هو يومُ الأحبابِ والمائِدةِ العامِرةِ ببركةِ كبارِها وبراءَةِ صغارِها، تُداعب مسامِعَهم أصواتُ باعةٍ مُتجوّلينَ وضَحكاتُ أطفالٍ مرحينَ آمنين. وهلَّتِ الأفراحُ على الغِزلانِ، فتزيَّنتْ لياليهم بالزَغاريدِ والأثوابِ والكوفيَّاتِ، وأطباقِ المَنْسفِ البلديِّ والكُنافَةِ النابلسيَّةِ في كلِّ مكانٍ. فرحةٌ لطَالَما تمنَّاها ضيوفُنا الكِرام.
وبعدَ قضائِهم عُطلَةَ استجمامٍ في البَحرِ الميِّتِ، اشتاقَ الغِزلانُ للقهوةِ وصوتِ مِهْباشِها، فشدُّوا الرّحالَ منَ العريقةِ بتاريخِها مادَبا، إلى مُدنِ الجنوبِ وناسِها، ففيها الكَرَكُ وقلعتُها الأبيّة، والطّفيلَةُ التي سَحَرَتْهُم بحياتِها البريّة، ومنها إلى البَتْراءِ الوَرديّةِ، أُعجوبةٌ مِعماريّةٌ طوَّعتِ الصَّخرَ كعجينةٍ طريةٍ.
وفي المساءِ خيَّمَ الغِزلانُ في وادي رَم، كأنّهم في لحظةٍ انتقلوا للمرّيخِ أو القمر، فَزالَ من قُلوبِهم الهَمُّ والضَّجرُ. وعندما داعبَتْهم الشّمسُ بأشعّتِها الذهبيّةِ، ساروا بلهفةٍ إلى مَعان، عروسُ الجنوبِ المُتوَّجةِ بقصرٍ عَزيزِ الجانِبِ وقَناطِرَ أثريّةٍ. والعَقَبَةُ كانت لهذه الرحلةِ خيرَ خِتامٍ، بحياتِها السّاحليّةِ التي تُلحّنُها آلةُ السِمْسِميّةِ، فيرقصُ عليها موجُ البحرِ، ويُداعبُ مَرجانَها وأسماكَها المُزرْكشةِ بألوانٍ بَهيَّةٍ. هذه كانتْ رحلةُ الغِزلانِ في أرجاءِ الأردُّنِّ بعدَ طولِ غيابٍ، جمعوا فيها صورًا ومؤنًا وذِكرياتٍ كانت لظُلمةِ الغربةِ نوراً ولقسوتِها دواءً.
بقلم عبد الرحمن كالوتي.”
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.